مشكلة الحماس أول
التوبة ثم الفتور بعدها
عندما
يتوب
الإنسان يبدأ بداية قوية ويقول : إن الشيطان يأمرني بالتخفيف ، ويزيد
من
الطاعات ، ثم تبرد الهمة فيقول : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ،
وتخف
الطاعات حتى يعود كما كان .
وسؤالي : ما هي النصيحة ؟ هل يبدأ
بداية
قوية أم بالتدريج حتى يثبت عليه ويزيد عليه بعد مدة أو يأخذ
بالمقولة "
إذا هبت رياحك فاغتنمها " ؟.
الحمد
لله
إن
نعمة الهداية والتوبة من
أعظم نعَم الله تعالى على المسلم ، وتغيير حاله
للأحسن مما يقرِّبه إلى
الله تعالى أكثر ، وفي العادة يُقبل التائب على
الطاعة إقبالاً عظيماً
يحاول فيها تعويض ما فاته من العمر الذي قضاه في
المعصية والضلال .
وهذا
الأمر طبيعي بالنسبة لكل صادق في توبته ،
وقد ذكَره نبينا صلى الله
عليه وسلم ، وبيَّن ما يحصل بعده من برود وفتور
في الهمة ، وهذا أمر
طبيعي أيضاً ، لكن الخطر على صاحب هذه التوبة أن يكون
فتوره وبروده في
تناقص مستمر إلى أن يرجع إلى حاله الأول ، ولذا كان من
الواجب الانتباه
إلى هذا الأمر ، وعلى التائب الطائع إذا فترت همته أن يقف
عند الاعتدال
والتوسط ، والتزام السنة ؛ ليحافظ على رأس ماله ، ويحسن
الانطلاق مرة
أخرى إلى الطاعة بقوة ونشاط ؛ لأن الانطلاق من التوسط خير من
الانطلاق
من الصفر .
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :
قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً ،
وَلِكُلِّ
شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي
فَقَدْ
أَفْلَحَ ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ
هَلَكَ
) . رواه ابن حبان في "صحيحه" (1/187) ، وصححه الألباني في "صحيح
الترغيب"
(56) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه
وسلم قال : ( إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ
فَتْرَةً
، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ ،
وَإِنْ
أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلا تَعُدُّوهُ ) رواه الترمذي
(2453)
وحسَّنه الألباني في "صحيح الترغيب" (57) .
قال المباركفوري رحمه
الله :
" قوله (إن لكل شيء شِرَّةً) أي : حرصا على الشيء ونشاطا
ورغبة في الخير أو الشر .
(ولكل شِرَّةٍ فَتْرَةً) أي : وهْناً
وضعفاً وسكوناً .
(فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ) أي :
جعل صاحب الشرة عملَه متوسطاً ، وتجنب طرفي إفراط الشرة وتفريط الفترة .
(فَارْجُوهُ)
أي : ارجو الفلاح منه ؛ فإنه يمكنه الدوام على الوسط , وأحب الأعمال إلى
الله أدومها .
(وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ) أي : اجتهد
وبالغ في العمل ليصير مشهوراً بالعبادة والزهد وسار مشهوراً مشارا إليه .
(فَلا
تَعُدُّوهُ)
أي : لا تعتدوا به ولا تحسبوه من الصالحين لكونه مرائيا , ولم
يقل فلا
ترجوه إشارة إلى أنه قد سقط ولم يمكنه تدارك ما فرط " انتهى .
"
تحفة الأحوذي " ( 7 / 126 ) .
ولكي يتجنب
المسلم الإفراط والتفريط
فعليه
بالقصد
، وهو التوسط ، فلا يبالغ في فعل العبادة والطاعة ؛ لئلا يملَّ
فيترك ،
ولا يتركها كسلاً وتهاوناً لئلا يستمرئ الترك فلا يرجع ، وكلا
الأمرين
ذميم ، ومن توسط في الأمر سلك ، ومن سلك وصل إلى ما يحبه الله
ويرضاه .
عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : (
لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ . قَالُوا :
وَلا أَنْتَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلا أَنَا ، إِلا أَنْ
يَتَغَمَّدَنِي
اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاغْدُوا ،
وَرُوحُوا ،
وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ
تَبْلُغُوا ) . رواه
البخاري (6098) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قوله :
( سددوا ) معناه : اقصدوا السداد أي : الصواب .
قوله
" وقاربوا
" أي : لا تُفْرِطُوا (أي تشددوا) فتُجهدوا أنفسكم في العبادة ،
لئلا
يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فَتُفَرِّطُوا (أي تقصروا) .
قوله
"
واغدوا وروحوا وشيئا من الدلجة " : والمراد بالغدو السير من أول النهار
,
وبالرواح السير من أول النصف الثاني من النهار , والدلجة : سير الليل ،
يقال
: سار دلجة من الليل أي ساعة ، فلذلك قال : ( شيء من الدلجة ) لعسر
سير
جميع الليل .
وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة , وعبر
بما يدل على السير لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته وهو الجنة .
قوله
" والقصدَ القصدَ " أي : الزموا الطريق الوسط المعتدل , واللفظ الثاني
للتأكيد " انتهى باختصار .
"فتح الباري" (11/297،) .
والخلاصة :
ندعوك
للتفكر
في الأحاديث السابقة ، والتأمل في معناها ، واعلم أن التوبة بحاجة
إلى
شكر ، وأعظم الشكر أن تداوم على بقائها ، ولا يكون ذلك إلا بالمداومة
على
العمل والطاعة ، واعلم أن ( أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ
أَدْوَمُهَا
وَإِنْ قَلَّ ) رواه البخاري ومسلم ، فلا تبدأ بقوة ولا تفتر
بالمرَّة ،
بل اقتصد في الطاعة ، وهذا في مقدورك ، وكلما رأيت من نفسك
نشاطا
فاجعله في طاعة الله ، وكلما رأيتَ فتوراً ومللاً فارجع إلى التوسط
،
ونسأل الله أن ييسر أمرك ، ويهديك لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق .
والله
أعلم .