غادرَ الطلابُ فصلهم متجهين إلى معمل الكيمياء
وقد تركوا حقائبَهم فى فصلهم ، ولكنَّ الأستاذ
مسرور مدرس الرياضيات ومشرف اليوم قد سمعَ
صوتَ حركةٍ فى الفصل الفارغ مِن طلابه ، فدخلَ
هناك ، فاكتشفَ تأخر الطالب نشأت عن زملائه
ووجدَه يعبث بحقائب زملائه ، فظلَّ يراقبُه ؛ حتى
يضبطَه متلبساً بالسرقة ، فوجدَه وقد فتحَ حقيبة
زميله ، واستولى منها على ساندوتش ، وأخذ
يأكله بشراهةٍ عجيبة ، فأمسكَه متلبساً مِن قفاه
وسحبَه إلى حجرة المدير ، وهو يزفه فى الطريق
للحجرة قائلاً : تقدم أيها اللص
فخرجَ بعضُ المعلمين مِن فصولهم على صوته العالى
وهاهو ذا الأستاذ عبد الجبار معلم اللغة العربية
والذى يُحفِّظ الطلابَ القرآن الكريم ، وقد نظرَ
الطالبُ المسكينُ إلى لحيته السوداء التى
استطالت وتدلَّتْ إلى رقبته ، راجياً أنْ يجدَ باباً
للرحمة والعفو عنه مِن هذا الموقف المحرج عند
هذا المتدين ، ولكن خابَ رجاؤه عندما هاجَ ذاك
الشيخ بصوتٍ أعلى مِن الآخرين ، صائحاً
إنَّ هذا الطالب لص ومجرم ، ولم أره يوماً يدخل
مسجد المدرسة ، ولو كنا فى دولةٍ تطبقُ الشريعة
الإسلامية لقطعنا يده ،وارتحنا من أمثاله المجرمين
فتجمَّدتْ الدموعُ فى عين الطالب نشأت ، وناجَى
ربه فى سره بأنْ ينجيَه من هذه الورطة التى وقف
فيها ذليلاً أمام جبابرة الأرض
وهنا اندفعَ الأستاذ سامح مدرس الفلسفة والمُلقب
بسقراط ، وأخذ يهدئُ مِن ثورة زملائه ، ولكن
الشيخ عبد الجبار لايهدأ أبداً ، واشتدَّ الجدالُ
بينهما فسأل الأستاذ سامح طالبَه عن مهنة أبيه
فترددَ الطالبُ وبدأ يروى بلسانٍ اختلطَ فيه الكلامُ
: مع الدموع وقال بصوتٍ أسيفٍ
أبى كانَ مهندساً بالحكومة،ولكنه للأسف أصيبَ
منذ عامٍ بالزهايمر ، وأصبحَ قعيداً عاجزاً عن العمل
وإنه يحصلُ على معاشٍ شهرىٍّ قليلٍ لايفى
باحتياجات الأسرة التى تتكونُ من أمى وأبى وأخوتى الأربعة
ثم توقَّفَ الطالب عن الكلام ، وانهالتْ أمطارُ الدموع
المكتومة غزيرةً كالسيل وهو يندبُ حظه العسير
فنظرَ الأستاذ سامح له مشفقاً عليه ، وهو يكابدُ
فى منع دمعةٍ أبتْ إلا أنْ تنزلَ حزناً على هذا
الطالب المسكين ، ولكن الشيخ عبد الجبار لم
يتأثرْ إحساسُه أبداً ، بل ازدادَ صلابةً فى موقفه
المتشدد كتشدد فكره وملبسه ، ومُصِراً بأنَّه
لايعترفُ بالدوافع الإنسانية ، فالسرقة لامبررَ لها
ابدافى نظره
ودخل الأستاذ مسرور الذى وقفَ متباهياً بأنه الذى
أمسكَ ذاك الطالب اللص ، وقد أحضر ورقةً كبيرةً
ملأها بجرائم الطالب ، مبالغاً فى أقواله ومُحرضاً
للمدير عليه ، وفى ذات الوقت ظلَّ الأستاذ سامح
يستعطفُ المدير بأنْ يسامحَ الطالب ، ولكن المدير
قال بأنه سيطبق اللوائح ، وأنه سيفصلُ هذا
الطالب أسبوعاً ، ولو تكررَ ذلك منه سيتمُّ فصله
نهائياً ، وهنا جرَّ الأستاذ مسرور الطالب نشأت إلى
:باب المدرسة أمام كل الطلاب قائلاً
اخرج أيها اللص الشرير
والطلاب يضحكون وينادونه نشأت يالصَّ الطعام
وخرجَ الطالبُ وحيداً بالشارع يتمنى لو تبتلعُه
الأرضُ وخطرَ على باله أنْ ينتحرَ ؛ ليرتاحَ مِن هذه
الدنيا الظالمة ، وتقدّمَ صوبَ نهر النيل المواجه لباب
المدرسة ، وفى أذنه أصواتُ زملائه وهم يعايرونه
بالسرقة ، وقبل أنْ يلقىَ بنفسه فى ماء النيل
كانت يدُ الأستاذ سامح تلتقطه مِن الموت
وتضغط على ظهره بابتسامةٍ حنونٍ ، ثم مدَّ له يده
ليبدأ معه صفحةً جديدةً مِن مشوار الحياة ، التى
مازالت فيها أيادٍ بيضاء تحاولُ تبديدَ السواد الغالب
بقلمى
سمير البولاقى