**الشيخ عبد الرحمن السديس إمام الحرم**
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، فكلّ عَمل بالتّقوى يزكو ويرقى، وعليكم بالجماعة؛ فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها المسلمون، وفي غِمار المُلِمَّات والأحداث تظهَر كعادتِها أفاعٍ من بين الصخور والأجداث، تنفث سمومَها، وتؤذِي بفحيحِها، ويهرع المتصيّدون في المستنقعات الآسِنة لترشق نصالهم المفتريةُ ثوابتَنا وقيَمنا، ناسبين هذه الأدناس إلى عامّة الصفوةِ والخيرة من النّاس، من أهل الخير والصلاح، في إساءةٍ للدين، ونيل من الصالحين، وسخرية بالمتديِّنين، واتّهامٍ لمناهجنا التعليميّة ومؤسَّساتنا الشرعيّة الدعويّة والاحتسابية والخيريّة. وايمُ الله إنّ هذا لمِن أبطل الباطل، أطرِق كَرا إنّ النَّعام لفي القِرى[1]، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ [الأنعام:164]، ولا يُظنّ بشبابِنا وأبنائنا في جملتهم إلا الخَير والولاء إنصافًا وتقريرًا، لا حيفًا وتبريرًا.
ومِن فضل الله وعظيم آلائه أن خصّ بلادَنا بسماتٍ ومزايا أهّلتها للطّليعة من بين دوَل العالم بحمد الله، يأتي في قمّة خصائصها قيامُها بأمر هذا الدّين، وتحكيمُها لشرع ربّ العالمين، ودعم ومؤازرة العلماء الراسخين والدعاةِ المصلحين، وإعزازُ جانب الحسبة ورجالاتِها، ودعم هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجالاتها، وتأكيدُ ولاتِها ومسؤوليها إنّ هذا من أعظمِ مقوّمات كيانِها، ممّا كان بلسَمًا على قلوب المؤمنين وسدًّا للمجال أمام كلِّ دعيٍّ متحذلق وكلّ قلمٍ مأفونٍ متشدِّق، يظهر في الأزمات، ويبرز في المصائب والملمَّات، لينكأ الجراح، ويعكّر الماءَ القراح، في صورةٍ انتهازيّة مقيتة ونفعية بغيضة وشِنشِنة أخزميّة مفضوحة، يتباكَون بدموع التماسيح على سفينةِ الأمّة وهم يخرقونَها، ويصيحون ويتضاغَون على مصيرها وهم يُغرقونَها، يُخرجون المكنونَ ويتشفَّون، وينوحون نَوح النائحةِ المستأجَرَة، في لونٍ من ألوان التّطرّف الفكريّ والشّطط الثقافيّ والتحامُل الصحفيّ والإعلاميّ الذي يستميتُ في الحوار مع الآخر الغريب، ولو أدّى ذلك إلى عطَبِ الحبيب القريب.
فحذارِ حذار من توسيع الهوّة، والجدَّ والجدّ في ردم الفجوة، والمزيدَ المزيد من بَذل المجهود لإعزاز الدّين وأهلِه، توحيدًا للكلمة، ورصًّا للصفوف، وَسَيرًا في دروب الصلاح والإصلاح، وتمسُّكًا بعُرى قيادتِنا الشرعيّة والعلميّة، وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى في أصدق قيله ومحكمِ تنزيله: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين...
ـــــــــــــــ
[1] الإطراق أن يطأطئ عنقه ويسجد ببصره إلى الأرض، وكرا ترخيم كروان وهو ذكر الحبارى ويكون طويل العنق، يقال له ذلك إذا أريد اصطياده، أي: طأطئ واخفض عنقك للصيد فإن أكبر منك وأطول أعناقا وهي النعام قد اصطيدت وحملت إلى القرى. يضرب لمن يتكبّر وقد تواضع من هو أشرف منه. انظر: المستقصى في أمثال العرب (1/221-222).